جاءت نتائج المسح الأخير لدخل وإنفاق الأسرة 2018، حاملة ما يؤكد 100 في المائة أهمية الانتباه والحذر، ما سيؤدي إليه السماح باستقطاع ما قد تصل نسبته إلى 65 في المائة من دخل الفرد المقترض قروضا عقارية طويلة الأجل، التي أظهرت على مستوى توزيع الإنفاق الاستهلاكي للأسرة السعودية، استئثار الإنفاق على “الأغذية والمشروبات، السكن والمياه والكهرباء والغاز وأنواع الوقود الأخرى، الصحة، النقل، السلع والخدمات الشخصية المتنوعة” بأعلى من 72.1 في المائة من إجمالي متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسرة السعودية.
في الوقت ذاته الذي يسمح خلاله باستقطاع هذه النسب المرتفعة جدا من الدخل الشهري للمقترضين عقاريا “تراوح بين 50 و65 في المائة”، لفترات زمنية تمتد إلى 20 سنة إلى 25 سنة مقبلة، وفي حال اضطر كثير من الأفراد إلى التوقيع على اتفاقيات التمويل العقاري لفترات زمنية كما هو قائم الآن، فبكل تأكيد سيضطر إلى تقليص أجزاء كبيرة جدا من إنفاقه الاستهلاكي على كافة تلك البنود الأساسية واللازمة لمعيشته وأسرته معه! دع عنك بقية البنود الأخرى من الإنفاق الاستهلاكي للأسرة السعودية، التي لم يأت ذكرها أعلاه “الأقمشة والملابس والأحذية، تأثيث وتجهيزات المنزل، الاتصالات، الترفيه والثقافية، التعليم، المطاعم والفنادق، ودون الاهتمام بالتبغ”، وتستقطع في المتوسط ما تصل نسبته إلى 27.9 في المائة من إجمالي متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسرة السعودية، التي سيتم مسح جزء كبير منها في ظل دخول هذا “الضيف الثقيل جدا” ممثلا في قسط سداد التمويل العقاري!
الحديث هنا يمتد في تفاصيله إلى الآثار العكسية المحتملة على المستوى المعيشي للفرد وأسرته طوال 20 ــ 25 سنة مقبلة، وينتقل بدوره إلى مختلف نشاطات الاقتصاد الوطني المستثمرة في مجالات وقطاعات تقديم منتجات وخدمات بقية بنود الإنفاق الاستهلاكي، التي ستتعرض مع زيادة أعداد المقترضين للقروض العقارية طويلة الأجل من المواطنين، إلى ضغوط هائلة عاما بعد عام، نتيجة تقلص الإنفاق الاستهلاكي الخاص على منتجاتها وخدماتها محليا، وستبدو الصورة أكثر وضوحا إذا اكتشفنا حجم ما نتحدث عنه هنا بلغة الأرقام كما سيأتي إيضاحه.
وفقا لنتائج مسح دخل وإنفاق الأسرة 2018، بلغ متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسرة السعودية 14.6 ألف ريال شهريا ، وفي بيانات رسمية أخرى للهيئة العامة للإحصاء، وصل عدد الأسر السعودية خلال 2018 إلى نحو 3.6 مليون أسرة، ما يعني أن متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسر السعودية يقدر شهريا بنحو 52.4 مليار ريال، ويبلغ تقديريا نحو 628.5 مليار ريال سنويا. وبالعودة إلى التوزيع أعلاه لبنود الإنفاق الاستهلاكي الرئيسة “الأغذية والمشروبات، السكن والمياه والكهرباء والغاز وأنواع الوقود الأخرى، الصحة، النقل، السلع والخدمات الشخصية المتنوعة”، يمكن تقدير حجم الإنفاق الاستهلاكي الشهري عليها بنحو 37.8 مليار ريال “453.2 مليار ريال سنويا”، فيما يقدر الإنفاق الاستهلاكي على بقية بنود الإنفاق “الأقمشة والملابس والأحذية، تأثيث وتجهيزات المنزل، الاتصالات، الترفيه والثقافية، التعليم، المطاعم والفنادق، التبغ” بنحو 14.6 مليار ريال شهريا “175.2 مليار ريال سنويا”.
تعني الزيادة المطردة في أعداد المقترضين عقاريا لفترات زمنية طويلة الأجل “بلغ عددهم حتى نهاية الربع الأول 2019 نحو 250 ألف مقترض”، والمقدر أن تصل بنهاية أربعة إلى خمسة أعوام مقبلة إلى نحو 1.3 ــ 1.4 مليون فرد مقترض، أؤكد أن كل هذا يعني في المقابل مزيدا من انخفاض الإنفاق الاستهلاكي للأسر السعودية، وتختلف نسب انخفاضه حسب البنود الرئيسة للإنفاق الاستهلاكي من أسرة إلى أخرى، إلا أن الرابط الرئيس هنا، هو أن الانخفاض حاصل لا محالة في تلك المستويات من الإنفاق الاستهلاكي، وذلك لمواجهة دخول بند جديد ثقيل الوزن على إجمالي الإنفاق الاستهلاكي الخاص.
كم يا ترى ذلك الانخفاض؟! المؤكد أنه سيكون بأرقام ضمن خانة المليارات من الريالات، التي ستترك آثارا عكسية بكل تأكيد على مستويات معيشة المقترضين، وأيضا على مختلف نشاطات وقطاعات الاقتصاد الوطني. أشير بوضوح شديد في المقال الأخير إلى انعكاساتها الثقيلة الوزن على منشآت القطاع الخاص، التي ستتأثر نتيجة لانخفاض الانفاق الاستهلاكي على التدفقات النقدية الداخلة على جميع منشآت القطاع الخاص، ويمثل المصدر الأهم لإيراداتها، ما يعني بالضرورة أن أي انكماش في تلك التدفقات ستكون له انعكاسات جسيمة على استقرار تلك المنشآت، ما قد يضطرها إلى تقليص نشاطاتها وتقليص توظيف العمالة لديها، وسيتحول الأمر إلى منعطف أشد مخاطر؛ إن لجأت تلك المنشآت إلى إنهاء عقود شرائح واسعة من العمالة الوطنية لديها، وكلا الأثرين يحمل معه كثيرا من التحديات الجسيمة على كاهل الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.
فحينما تضعف قدرة القطاع الخاص على التوظيف، نتيجة لتقلص تدفقاته النقدية الداخلة، فهذا سيؤدي إلى زيادة مطردة في معدل البطالة، ويزداد الأمر تكلفة إذا ما لجأت منشآت القطاع الخاص نفسها إلى تقليص أعداد العمالة الوطنية لديها، ما سيؤدي من جانب إلى زيادة معدل البطالة وأعداد العاطلين، ومن جانب آخر سيؤدي ذلك في حال كان من أولئك الذين أنهيت عقودهم من العمالة الوطنية من يتحمل أعباء قروض عقارية! إذ يعني ذلك زيادة انكشاف القطاع التمويلي أمام حالات واسعة من التعثر عن السداد، وهذا منعطف بالغ الخطورة، ويجب تجنبه منذ اللحظة بأي حال من الأحوال.
يجب العمل منذ اللحظة على تعديل عموم إجراءات ضخ القروض العقارية في يد الأفراد، وألا تتجاوز نسب استقطاعها من الدخل الشهري للمقترضين سقف 35 في المائة بحد أقصى، الذي يستهدف بالدرجة الأولى حماية مستويات معيشة الأفراد والأسر السعودية من أضرار معيشية وخيمة، ويستهدف أيضا حماية استقرار منشآت القطاع الخاص، والاقتصاد الوطني من الآثار السلبية المحتملة لكل ما تم ذكره أعلاه، وهو الأمر الممكن والموجود في أيدينا خلال الفترة الراهنة، ويمكن اليوم توخيه وتجنبه قبل أن تتعاظم أعداد المقترضين عقاريا، وقبل أن تصل إلى المستويات العالية جدا المتوقع وصولها إلى 1.3 إلى 1.4 مليون مقترض عقاريا في منظور السنوات الأربع إلى الخمس المقبلة. إنه المأمول بالدرجة الأولى من مؤسسة النقد العربي السعودي قبل أي جهاز حكومي آخر، كونها الجهة الإشرافية على عمل المصارف ومؤسسات التمويل، والتنسيق أيضا في هذا الشأن مع وزارتي الاقتصاد الوطني والإسكان، للخروج برؤى وخيارات أكثر سلامة وأمانا لاقتصادنا ومجتمعنا. والله ولي التوفيق.